جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - سياسه

جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - اقتصاد

الثلاثاء، 5 مارس 2013

صاحب الحنجرة الذهبية !!


http://elraees.com/index.php/mian/opinions/item/2890
بقلم/ محمد عبد الشافي القوصي؛


سبحان الذي أبدعَ كتابه وفصّله، وجعله معجزةً دونها كل معجزة، فمن دلائل إعجازه أنَّ حفظ الطفل له أسرع من حفظ الشيخ الكبير! لأنَّ الطفل قريب العهد بربه! ولِمَ لا؟ فالدِّينُ وجِدَ قبل وجود الأوطان]الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ القُرْآنَ. خَلَقَ الإِنسَانَ. عَلَّمَهُ البَيَانَ[! فتبارك الذي جمع القلوب على حب كتابه؛ واصطفى القُرّاء والعلماء، وجعلهم شامة بين الناس، حتى صارت أسماؤهم أوضح من الشمس في ضحاها، والقمر إذا تلاها !



وقد انقسم الناس -منذ نزول القرآن- أحزاباً وشِيَعاً في ترتيب أعلام القُرّاء وذِكر منازلهم .. ففي العصر الحديث، قالوا: إنَّ "القُرّاء" عِيَالٌ على "عبد الباسط" في التجويد !



وقيل: إنَّ القُرّاء في حياتنا كالمصابيح، و"عبد الباسط" النجم الثاقب ! أجل! فلمْ يعرف الناس قارئاً يفري فريّه، أوْ يطاول قامته ! فهو القارئ الذي سبقه صوته، وغطّتْ شهرته على أيْ ملِكٍ أوْ أمير ! بلْ كان الواحد منهم يقترب منه أكثر وأكثر ليشنِّفَ آذانه بآيات الذكر الحكيم، ومنهم مَنْ يسترقِ السمعَ ليتلذَّذَ بِسِحر التلاوة، وعبقرية الأداء ! 

ولقد عَلِمَ المستقدمون منهم والمستأخرون مكانة الشيخ، فأنزلوه منزلته، وقدّروه حق قدره! حسبه أنه إذا حلّ بدولةٍ ما؛ كان يُستقبَلُ فيها استقبالاً رسمياً، وتتسابق وسائل الإعلام لتعلن عن قدوم (الضيف الكبير) ! فالملِك فيصل يكون أول مستقبليه بالرياض ! وملك الأردن وحاشيته ينتظرونه بالمطار ! أمَّا في باكستان فكان الرئيس ضياء الحق يتأهَّبُ لمعانقته فور نزوله من الطائرة ! بلْ إنَّ الملك محمد الخامس؛ ينحني مُقبِّلاً يد الشيخ الجليل! أمَّا الهند وسوريا وليبيا وتشاد وغيرها؛ فكانت تتحول إلى أعيادٍ ومهرجانات شعبية احتفاءً بالقارئ الكبير! الذي هو أزكى عند الناس من سادتهم وكبرائهم، وأرقى مقاماً وأحسن قيلا !



نعم! إنه القارئ الوحيد الذي سافرتْ نحو صوته الجماهير ! فتزاحموا حوله، وجلسوا مدّ بصره، وكأنَّ على رءوسهم الطير ! حباً جماً في كلام ربهم، وإعجاباً بالصوت الذي يُرقّق المشاعر، ويُهذّب النفوس، ويُذِهِب الهمّ والحَزَن، والعجز والكسل ! ذات مرة؛ تأملتُ في وجوه الناس وهم يستمتعون بتلاوة الشيخ في الجامع الأزهر، فرأيتُ أعناقهم مشرئبة نحو المقرأة، كأنهم ينتظرون أنْ يُنادَى على أسمائهم ! وأبصرتُ نوراً يكسو وجوه السامعين، والبهجة تعلو هاماتهم، وكأنَّ أرواحهم تُحلّق مع نغمات الصوت، وترانيم التلاوة التي تتصاعد رويداً رويداً في الأفق الأعلى، حتى تعانق السماء ذات البروج !



ألَمْ تروا كيف فعل الأداء الجميل بوجدان الحاضرين والغائبين، والذين جاءوا من بعدهم بإحسان ؟! فمازال صوته يجري في الأوردة والشرايين، ويتخلَّل شغاف القلب وحناياه، ثمَّ يصبُّ في الذاكرة، فترتوي منه النفوس والأفئدة ... ولطالما يجد المرء نفسه يمشي على إيقاع صوته، ويترنم بترانيمه، ويتمايل من فرط إعجابه بنشوة التلاوة؛ حتى يشقّ على السامع مغادرة الصوت، مهما راودته نفسه الأمّارة !

لا جَـرَمَ أنَّ القُرّاء يجيئون ويذهبون، وتأتي أجيال وأجيال .. لكن يبقى "عبد الباسط" علامةً بارزةً في مسيرة سفراء القرآن، فلمْ يدركه منهم سابقٌ ولا لاحِق ! 
ولا غرو في ذلك؛ فهو صاحب "الحنجرة الذهبية" التي دونها معامل الصوتيات بعلومها الحديثة، وأجهزتها المبتكرة ! تلك الحنجرة التي هاجرت بالذِّكر الحكيم إلى ما وراء المشرق والمغرب، وتخطّتْ بالنور المبين اليابس والماء ..


وقد سُجّلتْ جميع قراءته سواء كانت في بواطن المدن أوْ حافات البوادي ! وصُنّفتْ قراءاته بأسماء مختلفة، وأوصاف عديدة، مثل : "تسجيلات الاستديو"، و"الحفلات الخاصة"، و"الحفلات الخارجية"، و"التسجيلات النادرة"، و"أمسيات الإمام الشافعي"، و"تسجيلات الحرم"، و"تسجيلات المسجد الأموي"، و"حفلات جنوب إفريقيا" إلى غير ذلك من المسميات التي يعرفها أصحاب شركات الصوتيات ! وبذلك يكون –عبد الباسط- القارئ الوحيد الذي خلّفَ وراءه أكثر من تسجيلٍ كاملٍ للمصحف "المجوّد" بمزامير مختلفة، أذرفتْ دموع المحبين، وسَلَبَتْ النوم من العارفين !


لقد كان –الشيخ- حريصاً على القرآن وقدسيَّته .. فكان أول قارئ في العالم الإسلامي يُسجِّل القرآن بالقراءات السبع، وكان أول من دعا إلى إنشاء "نقابة" تحتضن القراء، وتكتشف المواهب المؤهلة للقيام بتلك المهمة الجليلة، وقد اختير الشيخ نقيباً للقرّاء بالتزكية، وظلَّ راعياً لهذه النقابة حتى آخر يوم في حياته! فوربّ المشرقيْن وربّ المغربيْن؛ لقد رأيتُ أُناساً ما سمعوا (عبد الباسط) إلاَّ وانهمرتْ دموعهم مدراراً، بلْ رأيتُ أُناساً إذا سمعوه توقفوا عن الحركة، ولا يبرحون مكانهم! وشاهدتُ من تعروه هزَّةٌ كالطير بلّله القطر! والتقيتُ بمن يحفظ أيَّ سورةٍ مادامت بصوته! وأخبرني بعضهم أنهم يستمعون "السورة" مرات عديدة، وفي كل مرة يُخيّل إليهم أنهم يسمعونها لأول مرة! وقد سمعتُ الكثير والكثير، ورأيتُ ما لا عين رأتْ، ولا أُذن سمعت!

لعلَّ هذا الذي جعل الشيخ "الشعراوي" يقول في ثنايا حديثه عن مشاهير القُرّاء : " .. أمَّا إذا أردتُ أنْ أسمعَ جماليات القرآن؛ فإنِّي أستمعُ إلى عبد الباسط عبد الصمد"! وقال الإمام/ عبد الحليم محمود : "لقد أُوتيَ -عبد الباسط- مزماراً من مزامير آل داود" ! وكان الشيخ جاد الحق- يرى أنَّ تجويده لونٌ من ألوان التفسير ! بلْ كان الشيخ "الباقوري" يقول لمن حوله : "خذوا مني كل شيء، واتركوا لي صوت الحاج عبد الباسط" ! بلْ إنَّ الصحفي المسيحي "موسى صبري" كلما لقيَ الشيخ يقول له: "صوتكَ يا مولايَ يحرمني النوم" !



يقول الشيخ/ رزق خليل حبَّة : "كان الملك محمد الخامس من أشد المعجبين بفن وتلاوة الشيخ/ عبد الباسط، فتمنى أنْ يكون الشيخ (مغربياً) ليقرأ أمامه القرآن في كل الأوقات ! وذات مرة؛ طلب منه الملك أن يسجِّل القرآن كاملاً بطريقة (ورش عن نافع) فلمْ يتردد الشيخ في قبول الدعوة ! لكنه طلب إحضار الشيخ/ رزق خليل حبَّة –شيخ عموم المقارئ المصرية- وبالفعل حضر الشيخ رزق ! الذي روى هذه الواقعة، فقال : "بدأ عبد الباسط التسجيل، وسط جو مهيب من العناية والتقدير .. وحدثت المعجزة؛ التي أظهرت أن الشيخ/ عبد الباسط موهبة ومعجزة في آنٍ واحد؛ لأنه أنهى تسجيل المصحف كاملاً في أحد عشر يوماً، مما جعلني أردِّد قول الله تعالى (ما شاء الله لا قوة إلاَّ بالله) وأقرأ المعوَّذتيْن؛ ليحفظ اللهُ بهما هذا القارئ الفريد. فالشيخ قد حقق إعجازاً؛ لأنَّ طريقة "ورش" تحتاج إلى وقت وجهد وصبر، لن يتحقق قبل ستة أشهر على الأقل" !



فوربّ المشارق والمغارب؛ لقد أراد الله بنا خيراً أننا أدركنا -الشيخ- الذي جاء على قَدَرٍ ليملأ (مصر) وما حولها من القرى بهجةً وحبوراً، وقرآناً يتلى آناء الليل وأطراف النهار.

لقد كانت حياة الشيخ ذاخرةً بالمواعظ والعِبَر، ومملوءةً بروائع القصص؛ فمن ذلك؛ أنه لمْ تمضِ بضعة أشهر على إقامته بالقاهرة، حتى بلغ صوته كافة أنحاء المعمورة! ومن يومئذ؛ ظلَّ (عبد الباسط) أهم ظاهرة في عالم التلاوة والتجويد !



وكان أصغر قارئ التحق بالإذاعة المصرية، بلْ تمَّ اعتماده دون أنْ يُعقَد له امتحان! ورفض احتكار صوته لجهة بعينها، وذلك عندما حاولت معه "إذاعة صوت القاهرة" معتبراً أنَّ تلاوته هدية لجميع الإذاعات، وصدقة للناس كافة !



وقد كانت الدعوات تأتي للشيخ بدون مناسبة، فتحتشد له الجماهير، فإذا سألتهم عن المناسبة التي حضر من أجلها؟ كان ردهم: بأن المناسبة هي وجود الشيخ/ عبد الباسط !



وهناك واقعة رواها لي أحد أصدقاء الشيخ الذي حظيَ بالسفر معه إلى بلدان كثيرة، فقال: "بينما كان الشيخ يقرأ في (السنغال) فإذا بحوالي سبعين شخصاً يشهِرون إسلامهم، لجماليات الصوت فقط، دون أنْ يفقهوا العربية أوْ يتعلموها !



وفي "جوهانسبرج" كان الناس يتشوَّقون إلى زيارة الشيخ لهم، فلمَّا زارهم استقبلوه بحفاوة بالغة، لدرجة أنه بمجرد وصوله؛ تجمعوا حول السيارة التي كانت تقلّه، وحملوها على أعناقهم! الأمر الذي جعل الحكومة العنصرية البيضاء بجنوب أفريقيا، ترفع مذكرة إلى الجامعة العربية، تطالب بـ"منع دخول الشيخ أراضيها؛ لأنَّ صوته الساحر يُحرِّض السود على الثورة ضد السلطات"! بلْ أكثر من ذلك غرابةً؛ أنه عندما ذهب إلى إحياء إحدى المناسبات الإسلامية بالهند، لمْ تتسع القاعات المخصصة للحفل، حيث تجاوز العدد ثلاثة ملايين! فاضطروا لنقل الاحتفال إلى "الإستاد" كيْ يستمتع الحضور بحلاوة الأداء القرآني! بلْ ظلوا الليلة كلها وقوفاً يستمعون إليه، وهم حُفاة الأقدام ! 

كما أنعم الله على –الشيخ- بنعمة الصوت الرائق العذب الجميل الذي شنّف آذان الملايين؛ كذلك مَنَّ الله عليه بحسن الخُلُق، فكان يجلِّله التواضع، ولا يتكلم في أمور الدنيا إلاَّ قليلا، فكان طويل الصمت، كثير الذِّكر، شديد الحياء، دائم التأمل، يصافح الناس في الطريق ويعانقهم بحرارة، وكانوا يعرفونه عن بُعد، فمن رآه أحبه، ومن خالطه ازداد محبةً له .. إلى الحد الذي جعل الناس –كل الناس- أصدقاء له ومقربين منه! ولطالما سافر إلى أميركا ودول أوربا، فكانوا يدعونه عند افتتاح الهيئات والمراكز الإسلامية، لدرجة أنه قرر أن يتعلم (الإنجليزية) كيْ يتجاوب مع تلك الأقليات! فالتحق بأحد مراكز تعليم اللغات، ودفع مبلغاً يعادل قيمة أجر ثلاثين محاضرة، وطلب أنْ يتم التدريس له بمفرده .. ولكنه لم يحضر سوى ثلاث محاضرات؛ لكثرة أسفاره التي قد تصل إلى شهور في بعض الأحيان !



وقد حكى لنا أنه لمَّا سافر إلى "باريس" اشترى له بدلة ! حتى لا يلفِتْ الانتباه بجلبابه، لكنَّ الجاليات العربية والإسلامية عرفته، فعدل عن ارتدائها، وفضّل البقاء بزيه الأزهري . ولعلَّ روحه الوثَّابة؛ جعلته يعشق التجديد والتغيير المستمر .. فكثيراً ما غيّر محل إقامته، فمن السيدة زينب، إلى جاردن سيتي، ثم إلى المنيل، فإلى العجوزة !


في طفولته، كان –الشيخ- مولعاً بصوت الشيخ رفعت، لدرجة أنه كان يمشي مسافة تتجاوز خمسة كيلو مترات، من أجل استماعه! وكان لا يكفّ من الثناء على الشيخ مصطفى إسماعيل، الذي ربطته به صداقة متينة، واصطحبه في بعض أسفاره ! وكان –رحمه الله- مداوماً على قراءة الصحف، وعازفاً عن مشاهدة التلفاز، بيد أنه كان يحب المسرحيات الكوميدية ! وكان "فؤاد المهندس" نجمه المفضَّل ! وكانت هوايته "السباحة" ! فاشترى "فيلا" بالإسكندرية ! وكان يعشق اللون الأخضر؛ فمسبحته خضراء، ولون مكتبه أخضر، وعندما اشترى سيارة فضّل أن يكون لونها أخضر أيضاً !


ولا أنسى عندما كنتُ طالباً، وأجريتُ معه حواراً لمجلة الجامعة، وكتبتُ مقدِّمةً أدبيةً بديعة .. فلمَّا قرأها؛ راح يضحك، ويقول: "يبدو أنكَ كاتبٌ مُترَف الخواطر  ، أمَّا عن "السمات الفنية" التي تميز بها صوت -قارئنا الكبير- أذكر منها على سبيل المثال : معايشته المعاني القرآنية معايشة روحية وجدانية، فكأنه يتمثل نفسه في ذاك الموقف أوْ المشهد القرآني، بمعنى أنه يتقمَّص دور "الشخصية" التي قامت بأداء الفعل إياه، واستمع إليه في قوله تعالى: ]وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم[. أوْ ]وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ[.أوْ ]إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا[. إلى غير ذلك من الآيات التي جاءت في إطار القصص القرآني!


- وهناك ظاهرة "الاغتراب بالصوت" التي تجعل المستمع –المجاور للشيخ- يظن أن الصوت قادم من بعيد! وكأنَّ –الشيخ- يستنزِل الجمل القرآنية من أعالي الجبال أوْ يأتي بها من وراء البحار، ونلمس ذلك في قراءته من سورة القصص ]وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ المَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ[ .



- أيضاً، تجد المرونة والانسيابية والاسترسال، والتنوّع الموسيقي "المقامات" المصحوبة بذبذبات متباينة؛ تهدأ حيناً، وتعلو حيناً آخر ... كما نلمس ذلك في القصص القرآني مثل: "هود، ويونس، ومريم، وطه، والأنبياء، وغيرها .



- وهناك ميزة عجيبة من مزايا صوت عبد الباسط؛ ألاَ وهي وقوفه في الوقت الذي يُخيَّل للمستمع أنه سيوصِل القراءة، بينما يُوصِل في وقت يُخيَّل أنه سيقف! وأوضح مثال على ذلك تسجيلات الحرم، التي يأتي في مقدمتها سور التوبة، والحج، وإبراهيم، وغيرها .



- لكن أبرز ما اشتهِر عن الشيخ في تلاوته: جمال الصوت، وطول النفس، ووصل الآيات ببعضها، دونما إرهاق أوْ تكلّف على الإطلاق! فقوة صوته في أواخر الآية، يربو على صوته في مطلعها .. ولعلَّ تألقه في قصار السور أبلغ دليل، وأصدق شاهد على ذلك !



- معروف أنه كلما كبر الإنسان، تهدَّلَتْ حنجرته، وتحشرج صوته، لكن العجيب أن صوت "الشيخ" ازداد طلاوةً، فحملتْ قراءاته الأخيرة نكهةً ومذاقاً يجلّ عن الوصف والتقدير !

يقول الدكتور/ محمد سيد طنطاوي –شيخ الأزهر السابق: "لقد ربطتني بالشيخ عبد الباسط علاقة طيبة، فكان رضيّ النفس، طيِّب الخُلق، هادئ الطباع، تغمره عزَّة القرآن، وجهه دائماً مليء بالبِشر والتفاؤل، وكان مُنفِقاً سِراً وعلانية، فأتذكَّر أنني عندما كنتُ طالباً بالمرحلة الثانوية؛ كنتُ أستمع إليه يتلو القرآن بطريقة مؤثِّرة في النفوس. وكنا نجتمع وقتها يوم السبت من كل أسبوع؛ للاستماع إليه في الراديو، فكان عيداً أسبوعياً لنا جميعاً. ومرت الأيام، وشاء الله أن نتصادق، وان نتزاور، وأن نتدارس القرآن معاً، وكنا نستفيد من مجالسه استفادة كبيرة؛ لأنه كان على دراية كاملة بعلم التجويد ومخارج الحروف" .



هنـا؛ أستطيع القول بأنَّ الشيخ –رضي الله عنه- مِمَّنْ وضِعَ لهم القبول ! فحظيَ بإعجاب الخاصة والعامة، ونال من الأوسمة والجوائز والنياشين ما لمْ ينله سواه؛ فقد كرمته سائر الدول العربية والإسلامية بلا استثناء! لكن أكبر الأوسمة، وأعظم النياشين التي حازها –قارئنا الكبير- هو انجذاب الناس نحو بدائع قراءته والْتفافِهم حول صوته، كالطير صافات في مشهدها العجيب بين السماء والأرض !



سيقول المغفلون من الأعراب : أليس كله (قرآن) سواء قرأه من جاء من أقصى المدينة يسعى، أوْ قرأه من جاء من أقصى الصعيد خائفاً يترقَّبْ ؟! نقول: كلاَّ، وألف كلاَّ .. فقد أوصى "نبيّ الحب" صلوات الله عليه- بتجويده بأعذب الأصوات وأرقّ الحناجر، فقال: "زيّنوا القرآن بأصواتكم"، "مَنْ لم يتغنّ بالقرآن فليس منا" ! 

كان الشيخ عبد الباسط جميلاً كصوته، وسيماً كأخلاقه، فلقَّبته الصحافة العربية في بداية حياته بالشيخ "براندو" لأناقته، تشبيهاً بالممثل الأميركي "مارلون براندو" ! كما وصفته الصحافة الفرنسية بصاحب الصوت الأسطوري !



رضيَ الله عن –شيخنا- الذي نذر حياته كلها سفيراً -فوق العادة- للقرآن، مُرتّلاً تارة، ومُجوّداً تارة أخرى. وبينما هو في غمرة أسفاره التي امتدت من سواحل الهادي إلى شواطئ الأطلسي ... وفجأة؛ لَبَّى نداء السماء! مغادراً تلامذته ومريديه، ومُودّعاً حنجرته الذهبية؛ التي دونها معامل الصوتيات الحديثة! وصعدتْ روحه إلى أعلى عليين! عن عمر يناهز الثانية والستين، مُوصِياً أن يُوارى جثمانه بمسقط رأسه "أرمنت" التي ولد بها عام 1927م؛ تاركاً للناس –كل الناس- ميراثاً أعزّ وأغلى من أيّ ميراث، وثروةً دونها كل الثروات! فجزاه الله خيراً، وسلام عليه في العالمين ! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق