جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - سياسه

جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - اقتصاد

الثلاثاء، 26 مارس 2013

المديـــر فـــي المـــزاد

http://www.elraees.com/index.php/samiakhedr/item/3606
بقلم أ.د. سامية خضر صالح

أستاذ علم الاجتماع

تربية عين شمس
جرى " عم جوده " تاركا الآله التى يعمل عليها من أربعين عاما مهرولا إلى مكتب مدير المؤسسة التى التحق بها وهو لم يبلغ الخامسة عشرة عمره كانت كل الأفكار تتلاطم مع بعضها البعض فى وقت واحد تسبق قدماه النحيفتان وبقايا شعيرات بيضاء تنسدل على جبهته وعيناه غائرتان فى استسلام لخطوات من الزمن اللعين الذى لم يترك له يوما ينعم فيه بدون مسئولية ثقيلة.

فقد مات والده وهو صغيرا وتحمل مع أمه تربية أخواته ذكورا وأناثا .. تركة ثقيلة أخذت الكثير من طفولته وشبابه لكنها عمقت بداخله معرفته بألاعيب الحياة وخداعها عرف الجوع والبرد لكنه لم يعرف الذل والانكسار كان يكفيه أن يسمع أمه وهى تقول أنه رجل البيت .. أنه المسئول .. أنه الكبير .. أنه الساهر على راحتهم .. أنه لا يعرف الخطأ .. أنه غنى بأخلاقه الحميدة .. تلك الكلمات هى التى كانت تشبعه وتدفئه وتغذيه وتقوى إرادته ولا يفهمها إلا من دعكته الأيام والليالى الصعبة المظلمة .. تقوى ظهره لينوء بحمله الثقيل.

عندما اقترب من مبانى الإدارة تباطأ فى السير .. فهو دائما بين المكن والزيوت ما الذى يدفعه لتلك السلالم الرخامية وتلك السجاجيد الحمراء الطويلة وذلك النجف الذى يتدلى منه بللورات بيضاء زجاجية لامعة وتلك الأبواب المغلقة على أناس لا يعرفون غير الياقات البيضاء والجاكت النظيف والكرافت الملونة أيديهم ناعمة ووجوههم أيضا .. كاد يرجع من حيث أتى فحتى السعادة فى ذلك المكان لهم شكل آخر صدورهم عالية وحلتهم نظيفة .. لكن يجب عليه أن يتكلم يصارح هذا المدير الجديد الذى قبل مجيئه سبقته سمعته الطيبة قيل أنه جاء لينظف الإدارة من كل الأصابع الملوثة والتى تعودت على التلاعب بكل شىء وأى شىء .. نعم أنه أول مدير ينزل ليرى المخازن القديمة بنفسه .. أول مدير يطلب بيان بكل ما يسمى كهن .. أول مدير يسير بين العمال وأول مدير يربت على ظهره هو .. ويقول له بصوت قوى إذا أردت شىء لا تتردد فى مقابلتى بابى مفتوح لكم .. لماذا أختاره هو ..؟ لابد أن القلوب الطاهرة تتلاقى .. لا بد أنه كمسئول جديد يريد أن يتعرف على أعماق الحقائق ليكون الإصلاح سهل .. لابد أنه سمع عنه أنه أمين .. أمين الأيدى .. وأمين القول .. وأمين الذمة.

وقف أمام باب المدير فأشاروا إليه بالانتظار عند السكرتارية .. ماذا سيقول هل يصرح بكل شىء يعرفه عن "شمروخ" هذا اللص اللعين المنافق ذو الأسنان الصفراء والنكتة الجارحة والضحكة المجلجلة بقهقهه تنتهى بكحة خشنة والذى من خلاله تتحول أحدث الأجهزة المستوردة إلى الكشف الذى يحمل عنوان انتهاء العمر الإفتراضى .. لتباع فى مزاد يرسو على من يرضى عليه ذلك الشمروخ مع بطانته " مدام زبيدة والحاجة فاطمة " بعد أن يقبض ما يسره ويجعله سعيدا .. وهل سيفهمه البيه المدير ويكافأة .. لا .. أنه لا يريد المكافأة .. يكفيه أن يخدم ذلك الرجل الشهم الذى تم اختياره للإصلاح .. أنه يمسك فى يده البرهان فالماكينة الألمانى لم يمض على وجودها فى العمل سوى سنة واحدة وانتقلت بقدرة شمروخ إلى صالة البيع بعد أن تم نزع بعض الأبواب والصواميل تشويها لكفاءتها العملية.

لحظات واستدعاه المدير .. وقف " عم جودة " يقدم التهانى والدعاوى ثم بمنتهى الحسم بدأ يحكى للمدير كيف يتم اتلاف الآلات وكيف يؤثر ذلم فى الإنتاج وفى الروح المعنوية للعمال الأوفياء اللذين لا يجدون حلا لعمليات التدمير الإقتصادى الذى يحدث فى المصنع .. وبينما عم جودة مسترسل لاحظ أن البيه لا تظهر على وجهه أى علامات لا رضاء ولا رفض .. ولا ابتسامة ولا غضب .. ورن جرس التليفون وانشغل البيه فى الحديث الطويل كأنه يتهرب من زائر ثقيل .. ودخل آخرون وخرج العامل الوفى إلى مكانه وقد إنتقلت مسامير عقله للجانب الخلفى رافضا أى تبرير لتلك الجلسة الباهتة .. الجامدة .. الباردة..

وجاء موعد المزاد وتخلصت المؤسسة من أخشاب وحدايد وأجهزة وآلات بما فيهم الماكينة الألمانى ولم يهتم أحد بسؤال عم جودة والذى يصعب علية تفسير زوجته التى يسميها الجاهلة بأنهم ينفذون ما يريدون وأنهم لا يريدون أن يوضح أحد لهم الحقائق .. فقد ظل يؤمن أن المدير لابد وأنه فى يوم ما سيناديه ليعرف منه كل ما هو صادق.

ومرت سنة واحدة ووجد "عم جودة" أن الماكينة الإنجليزى الذى كان قد بدأ يعمل عليها ويستريح لها ويشعر بالإرتباط بها قد حملوها وأخرجوها وألقوها بعيدا تمهيدا لبيعها كأجهزة متهالكة انتهى عمرها الإفتراضى .. حينئذ لم يتمالك نفسه من الثورة .. أدرك أنه لابد وأن مديره المحترم سيفهمه ويتأكد أنه لا يريد شيئا لنفسه لكن لمصلحة العمل .. لشعوره أنه إنسان مسئول عن جزء من المنتج ختى لو كان فى مكانه عامل بسيط وسط الشحم الأسود وأصوات الأجهزة والآلات.

اجتاز بسرعة رهيبة الشوارع القذرة التى تفصل البناءات الضخمة بعضها عن بعض وصل للمبنى الرئيسى الفخم طلب مقابلة المدير قالوا له أنه اليوم فقط تم تعيين مدير جديد .. استبشر خيرا وصمم على المقابلة .. تقدم خطوات وقبل أن يتراجع سقط مغشيا عليه فقد كان المدير الجديد .. هو بلحمه وشحمه هو شمروخ اللعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق