جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - سياسه

جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - اقتصاد

الأربعاء، 27 فبراير 2013

والله زمان يامصر .. وحشتيني يابلدي ياحلوة - 8


http://elraees.com/index.php/mian/writers/item/2625
بقلم اللواء : نبيل أبو النجا *

بعد أن نهرتني ست الحبايب وأعطتني دشا باردا من التوبيخ على اعتبار أنني المسئول الأول عن النكسة في مصرنا الغالية, عدت أدراجي إلى مدرسة الصاعقة (عرين الأسود) حيث عملي كمعلم في المدرسة لتخريج الفدائيين, بعد أن تركت الكتيبة 43 صاعقة عقب عودتها مباشرة من معركة رأس العش ببورسعيد وبعد أن استشهد الملازم/ سامي وديع ميخائيل صديقي ودفعتي في التدريب بالقنابل اليدوية الحية, استمر العمل ليل نهار في سباق مع الزمن لتحقيق الهدف الأسمى وهو استرداد الكرامة والأرض والعرض.
كان التدريب شاقا بكل ماتحمله الكلمة من معنى وفي صورة مطابقة تماما لظروف المعركة القادمة وكان لزاما علينا تحويل المقاتل العادي إلى فدائي يسابق الموت من أجل أن تحيا مصر, فدائي يأكل الثعابين والفئران والذي منه, يحتمل مالا يمكن أن يحتمله بشر على وجه الأرض. وأتذكر هنا أنه في إحدى جولات التسابق على الفوز بدرع القوات المسلحة للكفاءة القتالية كان علينا أن نفوز بسباق اختراق الضاحية في شهر أغسطس ودرجة الحرارة تقترب من الخمسين درجة مئوية وبزي القتال الكامل وبالسلاح الشخصي ومهمات القتال وفي غرود رملية  شاقة (رمال متحركة) وبذلنا غاية جهدنا حتى أن الرقيب/ ساري استشهد من أجل فوز الصاعقة بدرع الكفاءة القتالية, رجل نوبي أصيل مخلص من خيرة شباب الوطن رحمه الله يعطي حياته قربانا لتفوق الصاعقة في التدريب.
بدأت حرب الإستنزاف في 8 مارس العام 1969 وتسابق الجميع في عبور قناة السويس وكنا نتقاتل ونشتبك مع بعضنا البعض لنيل شرف عبور القناة وعمل إغارات وكمائن على قوات الصهاينة التي تدنس سيناء الحبيبة هذا الجزء الغالي من تراب الوطن المفدى, وكنا نضع نوط أطلق عليه نوط العبور وهو يوضع على الصدر على الجانب الأيسر فوق القلب وله ثلاثة ألون الأخضر ويعني الأرض الزراعية في مصر والأزرق وهو القناة والأصفر ويعني سيناء الحبيبة, بداخل النوط دائرة يدون بها عدد مرات العبور حيث كنا نتباهى ونتفاخر بهذا السجل ونشعر بالغيرة من بعضنا البعض, الغيرة في حب مصر والتسابق مع الموت من أجل أن تحيا مصر حرة أبية.
كانت وحدات الصاعقة محدودة العدد نظرا لأنها قوات خاصة تتطلب نوعية معينة من الرجال وتدريبا شاقا طويلا يحول الإنسان لإنسان آخر, ومع اقتراب موعد الحرب قرر الفريق/ محمد صادق رحمه الله زيادة أعداد وحدات الصاعقة استعدادا لليوم الذي ننتظره طويلا على أحر من الجمر, تطلب ذلك العمل ليل نهار حيث توقفت الإجازات وقضينا سنوات في عملنا لا نعلم شيئا عن الحياة المدنية ولا عن أهالينا, وتحمل الشعب المصري شظف العيش وربط الجميع الحزام على البطون ولا تذمر ولا مطالبات بل عطاء من أجل الهدف الأسمى وهو استرداد الكرامة المسلوبة والأرض والعرض.
في أول يوم من أيام العمليات يوم السبت العاشر من رمضان السادس من أكتوبر العام 1973, كلفت بطلعة جوية بالهليوكبتر للوصول إلى مضيق سدر على مسافة 80كم خلف خطوط العدو للإتصال بكتيبة صاعقة أنزلت جوا هناك لعمل كمائن ضد مدرعات العدو ومنعها من التدخل في المراحل الأولى للقتال حيث ستكون قواتنا بدون أسلحة ثقيلة لِأن كباري العبور سيستغرق إنشاؤها من 6-8ساعة وخلال هذه الفترة لا بد من إيقاف جحافل مدرعات العدو القادمة من العمق, إذن هى عملية حياة أو موت ونجاحها سيتوقف عليه نجاح عملية العبور للجيش الثالث الميداني.
وأنا أتوجه للطائرة, امسكني أحد المقاتلين من ذراعي وقال لي أنا طالع مكانك العملية دي, أذهلني مظهره حيث كان بلحية كبيرة  ومتقدم في السن وبدون رتب, فقلت له إنها مهمتي التي كلفت بها وانتظرها منذ زمن بعيد, ثم من أنت؟ قال لي أنا النقيب راشد أبو العيون من قدامى ضباط الصاعقة وخرجت توا من السجن الحربي (المعتقل)  ولا بد أن أقوم بهذه المهمة بدلا منك, إنت كنت في ابتدائي بتلعب مع الأولاد وأنا ضابط صاعقة وأنا أحق منك وأسأل الله أن يكتب لي الشهادة, وتشابكنا بالأيدي!! كلانا يريد أن يقوم بالمهمة ولم يفض الاشتباك سوى حضور القائد العقيد أح/السيد إبراهيم الشرقاوي قائد المجموعة الذي أمرني بترك المهمة للفدائي راشد أبو العيون الذي كان معتقلا في السجن الحربي وذاق مرارة السجن خلف القضبان في مصر وخرج ليعطي الروح والدم للوطن ولم تشفع لي دموعي لأنه اليوم الذي كنا ننتظره جميعا على أحر من الجمر.
قام راشد بالمهمة وأسقطت طائرته وأصيب بإصابات خطيرة ولم يفز بالشهادة كما تمنى ولكن كل جرح في جسده الطاهر هو وسام له ولكل المصريين الشرفاء, وعادت المهمة لي والحمد لله تحققت ولم يستطع العدو دفع دبابة واحدة من المضيق في العمق وعلى بعد 70 كم طيلة فترة العمليات وأبلى الشهيد البطل/رفعت عبد الوهاب عامر نصار قائد الكمين بلاءً حسنا حتى استشهد وهو من قرية المشايعة بحري مركز الغنايم محافظة أسيوط, رحم الله البطل ورفاقة الأبطال الذي استشهدوا في معركة استرداد العزة والكرامة.
عدت بعد انتهاء المعركة لبلدتي ميت غمر وكنت أسابق الريح لأحضن ست الحبايب وأطيب خاطرها وأقول لها ها أنذا ابنك الذي تفخرين به وأنا حاصل على أعلى وسام في الحرب وهو وسام النجمة العسكرية ولست الإبن الذي طردتيه من البيت لأن الصهاينة هزموه في النكسة, وصلت للبلدة وكلي حنين وشوق للأم العظيمة التي هى جزء من مصرنا الغالية, طرقت الباب وذهل الجميع لأنهم كانوا قد اعتقدوا أنني شهيد حيث طالت فترة عودتي من خلف خطوط العدو ولم يكن أحد يتوقع أنني على قيد الحياة وسأعود ثانية لكنها إرادة الله.
وجدت إخوتي  والوجوم يكسوا وجوههم, مالهم لا ينطقون, احتضنتني الحاجة/حكمت أختي الكبيرة وبكت وقالت إن أمي ظلت رافعة يديها للسماء  في أول أيام الحرب وتدعو الله أن يوفقني في استرداد الأرض والعرض وأن أعود بالسلامة أو ألقى الله تعالى شهيدا, ظلت الحاجة/فائقة ست الحبايب رافعة يديها رافضة الطعام والشراب حتى فاضت روحها الطاهرة يوم التاسع عشر من أكتوبر 1973 أي بعد ثلاثة عشر يوما من بدء القتال, لم أبكي واسترجعت في ذهول كلامها معي ومازال في أذني, رحمك الله ياأمي ورحم شهداء مصر الأبرار.
والله زمان يامصر...وحشتيني يابلدي ياحلوة...ارجعي كما كنت قلب العروبة النابض وقلعة الأبطال ومنارة العلم والحضارة...ارجعي, أنا عارف إنك زعلانه مننا لكنها شدة وستزول إنشاء الله, اقرأ ياريس اللي كتبته, ياشباب مصر كلنا من رحم مصر ومن طينها, سطروا صفحات الفخار وابذلوا الجهد والعرق وتحدوا المستحيل واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا, تسابقوا للخير وحاربوا الكسل والتخاذل, اسهروا ليل نهار من أجل مصر فهي التي سهرت علينا في طفولتنا ورعتنا طيلة أعمارنا وحقا علينا رد الجميل لأمنا الغالية والعمل على رفعتها ورقيها, يا كل أب وكل أم اجعلوا الأسرة حجر الزاوية المتين للوطن, علموا أولادكم مخافة الله والقيم والمثل ولتعلموا جميعا أن الدنيا لا تساوى أكثر من متر أرض وشوية تراب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق