جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - سياسه

جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - اقتصاد

الثلاثاء، 26 فبراير 2013

ماذا نصنع فى الدم..؟!


http://www.elraees.com/index.php/mian/files/item/2589
بقلم : علاء الاسوانى

فى العام الماضى، تلقيت دعوة لحضور الاحتفال بعيد الميلاد المجيد فى كنيسة قصر الدوبارة. هذه الكنيسة لعبت دوراً عظيماً فى الثورة. أقامت مستشفى للمصابين وجمعت تبرعات وتصرف المسئولون فيها بشجاعة نادرة لحماية الثوار من القتل والاعتقال. دخلت إلى القاعة فوجدت مجموعة من الشخصيات التى ارتبطت بالثورة. جاء مكانى خلف الدكتور أحمد حرارة ووالدته. حرارة طبيب أسنان شاب من أسرة ميسورة. تخرج فى كلية طب الأسنان وافتتح عيادة خاصة. كانت حياته على ما يرام وكان بإمكانه مثل أطباء كثيرين أن يسافر للعمل فى بلد خليجى فيكسب ثروة طائلة لكنه آمن بالثورة واشترك فيها، وفى جمعة الغضب أصابه ضابط شرطة بطلق خرطوش فى عينه ففقدها.
كان بإمكان حرارة أن يكتفى بهذه التضحية لكى يكون أحد أبطال الثورة لكنه ظل بعد أن فقد عينه يشارك بذات الحماس فى المظاهرات حتى كانت أحداث محمد محمود فأصيب فى عينه السليمة وفقدها ليصبح كفيفاً، سافر حرارة إلى فرنسا حيث أخبره الأطباء بأن الأمل شبه منعدم فى علاج عينيه. الثمن الباهظ الذى دفعه البطل حرارة لم يصبه بالإحباط..
إذا أردت أن تتأكد أن هذه الثورة ستنتصر يكفى أن تجلس لمدة دقائق مع حرارة. لا يمكن أن تنهزم ثورة يضحى فيها شاب بعينيه ومهنته ويحتفظ مع ذلك بإيمانه بالثورة وتفاؤله. جلست خلف حرارة ووالدته. كانت والدته تضع يدها على كتفه وتنقل إليه ما يحدث حوله، كانت تخبره عن شكل القاعة وتحركات الناس وعندما يأتى أحد لتحيته تهمس فى أذنه باسم من يحدثه. فكرت أن ما تفعله هذه الأم مع ابنها قد فعلته لسنوات طويلة.
إنها الآن تنقل إليه ما لا يراه بنفس الحنان الذى كانت تعتنى به وهو طفل وتسهر بجواره إذا مرض، تهمس إليه الآن بنفس الرقة التى كانت تعد بها العشاء وهو يستذكر. فكرت فى فرحتها بمجموعه المرتفع فى الثانوية العامة وزهوها لما التحق بكلية طب الأسنان وسعادتها لما زارته لأول مرة فى عيادته. ها هى فى النهاية تعود إلى نقطة البدء فتحتضنه وتحكى له ما لا يراه، تماماً كما كانت تهدهده وهو طفل. حرارة ومالك مصطفى وكثيرون غيرهم أبطال حقيقيون فقدوا عيونهم حتى ترى بلادهم نور المستقبل..
الأمهات دفعن الثمن الأكبر فى هذه الثورة.. أقف دائماً مبهوراً أمام أمهات الشهداء. حزن الأم على ابنها الشهيد لا يمكن وصفه بالكلمات. إذا استشهد صديق لك ستحزن من أجله أما أمه فإنها لن تحزن وإنما ستموت.. ستموت كل يوم عندما يحين موعد عودة ابنها ولا يعود، ستموت كلما رأت ملابسه وكتبه ودخلت إلى حجرته، كلما قابلت أصدقاءه، وكلما صنعت طعاماً تعرف أنه يحبه. أمهات الشهداء جميعاً لهن سمت واحد، طابع ما، حالة تتجاوز ما نعرفه عن الحزن. كأن الفجيعة نقلتهن إلى عالم آخر. كأنهن يعشن وسطنا لكنهن صرن ينتمين إلى دنيا أخرى ليس بإمكاننا أن ندركها.. كثيراً ما رأيت أم الشهيد تتحدث عنه وكأنه لم يمت. والدة محمد الجندى ظهرت فى التليفزيون وراحت تفخر بإتقانه ثلاث لغات، وحكت بالتفصيل كيف يصر على أن تأكل معه الحلويات مع أنها مصابة بالسكر.. مرة قالت لى أم شهيد بلهجة هادئة محايدة:
ــ الحمد لله إنى كفنته ودفنته بيدى، كنت أول من استقبله فى الدنيا وآخر من ودعه.
.. أثناء اعتصام سعد زغلول فى الإسكندرية، اقتربت منى سيدة متشحة بالسواد وقالت لى:
ــ أنا والدة أميرة، أصغر شهداء الإسكندرية. أميرة عندها 13 سنة كانت واقفة جنبى فى البلكونة ولما لقت الضابط بيقتل المتظاهرين طلعت التليفون وبدأت تصور. الضابط شافها قام ضربها رصاصة فى دماغها.. كان ممكن ياخد منها التليفون بدل ما يقتلها...
لم أجد ما أقوله لها. كل كلمات التعازى التقليدية تبدو بلا معنى أمام أم فقدت ابنتها. الضابط الذى قتل أميرة حصل على حكم بالبراءة وتمت ترقيته فصار يأخذ ثلاثة أضعاف مرتبه. حتى الآن لا أحد يعرف عدد شهداء الثورة بالضبط. أرقام وزارة الصحة كاذبة والمستشفيات تستجيب لضغط الأمن فتكتب تقارير وهمية حتى تبرئ القتلة، والطب الشرعى موالٍ للحكومة كما عرفناه فى قضية الشهيد خالد سعيد. فى التقديرات غير الرسمية يقترب عدد الشهداء من ثلاثة آلاف بالإضافة إلى ألفى مفقود (غالباً استشهدوا ودفنوا سراً فى أماكن مجهولة) بخلاف 18 ألف مصاب...
كان هذا الثمن الذى دفعته مصر للتخلص من مبارك. تنحى مبارك، لكن القتل استمر. ارتكب المجلس العسكرى مذابح عديدة راح ضحيتها مئات الشهداء، ثم ذهب المجلس العسكرى وتولى الإخوان الحكم فاستمروا فى القتل. محمد مرسى، الذى يقدم نفسه كرئيس إسلامى وَرِع ضرب رقماً قياسياً فى قتل المصريين بواسطة وزير داخليته الجلاد. خلال شهر واحد سقط ما يقرب من سبعين شهيداً، ولأول مرة فى تاريخ مصر تم إطلاق الرصاص على جنازة الشهداء فى بورسعيد فسقط مشيعو الشهداء شهداء مثلهم.
شباب الثورة يتم خطفهم وتعذيبهم ببشاعة أو قتلهم وإلقاؤهم فى الشارع طبقاً لمخطط واضح لتصفية كل من يؤدى دوراً فعالاً فى كشف جرائم الإخوان.. فى أى بلد فى العالم إذا قتل الرئيس مواطنيه يفقد شرعيته فوراً ويحاكم حتى لو كان منتخباً مائة مرة، لكننا فى مصر لدينا من لايزال يعتبر مرسى رئيساً شرعياً كأن من قتلهم ذباب أو صراصير لا قيمة ولا معنى لحياتهم.. الإسلام عند شباب الإخوان يتمثل فى المرشد، سيؤيدونه بحماس لو قتل الشعب كله.
المشهد فى مصر الآن أوضح من أى وقت مضى: رئيس تم انتخابه ثم تحول إلى ديكتاتور وقرر- بتعليمات المرشد- أن يستولى على الحكم إلى الأبد. بدأ بكتابة دستور بواسطة لجنة غير شرعية حصّنها بنفسه حتى لا يبطلها القضاء، ثم عين نائباً عاماً موالياً يتهمه أعضاء النيابة بالتدخل لصالح الإخوان، ثم حصّن مجلس الشورى الباطل حتى لا يقضى القضاء بحله، وأحال مجلس الشورى إلى سلطة تشريعية- برغم أنه منتخب من 7 فى المائة من المواطنين- واستصدر منه كل القوانين الكفيلة بإبقاء الإخوان فى السلطة. منذ البداية، تواطأ الإخوان ضد الثورة مع المجلس العسكرى فى صفقة تبادل منافع. يسمح لهم العسكر بالانتخابات قبل الدستور ويتجاهلون شراءهم لأصوات الفقراء حتى يفرضوا الدستور الذى يريده المرشد، وفى المقابل يحافظ المجلس العسكرى بموجب دستور الإخوان على امتيازات أعضائه وثرواتهم الطائلة وتتم حمايتهم من المحاسبة على الأرواح التى أزهقوها. فعل الإخوان ما أرادوه وحصلوا على ما طلبوه.. كل ما ينقصهم الآن الإطار الفارغ الذى يمنح شرعية لجرائمهم.
كان مبارك حاكماً استبدادياً يتحكم فى الدولة المصرية كما يشاء لكنه كان يغطى استبداده بمسرحية سخيفة صاخبة.. مجلس شعب ومجلس شورى ومناقشات وكلام وشعارات حتى يبدو الشكل ديمقراطياً بينما السلطة فى يد مبارك وحده.. الآن يتبع الإخوان طريقة مبارك. بعد أن فرضوا دستورهم وقوانينهم والنائب العام الخاص بهم وعطلوا القضاء سوف يجرون انتخابات يشكلون بها مجلس الشعب بأغلبية تمكنهم من السيطرة عليه، ولا مانع من التبرع ببعض المقاعد لمعارضة شكلية حتى تكتمل مسرحية الديمقراطية الزائفة. ما قيمة انتخابات تجرى طبقاً لقانون باطل أصدره مجلس شورى باطل وفقاً لدستور باطل أنتجته لجنة تأسيسية باطلة..؟!. أى شرعية لانتخابات تجرى فى ظل سلطة تسيطر عليها جماعة غير قانونية تمويلها مجهول المصدر وتحت إشراف رئيس مسؤول عن قتل وتعذيب مواطنيه. من يوالى الإخوان ويتغاضى عن جرائمهم ويشترك فى انتخاباتهم، هل يحق له بعد ذلك أن يطالب بإسقاط الدستور الباطل إذا كان قد حصل بموجبه على مقعد فى البرلمان.؟ سيقول بعض الناس طبعاً إنهم سيشتركون فى الانتخابات حتى لا يتركوها للإخوان وحتى يكشفوا التزوير وحتى ينقلوا صوت الثورة فى البرلمان.. كلها تبريرات خائبة تعكس تفكيراً ساذجاً أو أطماعاً سياسية تافهة لا تليق باللحظة الفارقة التى تمر بها مصر. الحقيقة ساطعة: كل من يشترك فى هذه الانتخابات يخون الثورة ويضيع حق الشهداء ويمكن الإخوان من تغطية جرائمهم ويضفى شرعية على رئيس قتل مواطنيه وعطل القانون لصالح جماعته. المطلوب إسقاط الدستور وإقالة النائب العام غير الشرعى وانتخابات رئاسية مبكرة ومحاكمة عادلة للمسؤولين عن قتل الشهداء وأولهم مرسى نفسه والجلاد محمد إبراهيم وزير الداخلية. هذه مطالب الثورة الواضحة التى يحتشد ملايين الناس فى كل أنحاء مصر من أجل تحقيقها وهى تتعارض تماماً مع الاشتراك فى انتخابات يجريها نظام قاتل وغير شرعى.
لن تحقق الثورة أهدافها بصفقات مع القتلة، وإنما الطريق الصحيح هو ما يفعله أهل بورسعيد الآن. إضراب عام يؤدى إلى عصيان مدنى سلمى يجعل من سيطرة الإخوان على الدولة مستحيلة، عندئذ سيضطرون رغماً عنهم إلى تلبية مطالب الشعب. الإخوان لديهم مجموعات من القتلة تنتمى إليهم أو إلى الشرطة، بمقدورهم دائماً أن يقتلوا من يعارضهم، لكنهم لن يستطيعوا أبداً مواجهة العصيان المدنى.
لن يستطيعوا أن يعتقلوا ملايين المصريين إذا قرروا الامتناع عن العمل. فكرة العصيان تصيب الإخوان بالرعب. سقط أربعون شهيداً فى بورسعيد خلال يومين فقط وبرغم ذلك خرج مرسى ليشكر القتلة ويهدد الضحايا بالمزيد من القتل، لكنه فى اليوم الأول للعصيان المدنى سارع بإعادة المنطقة الحرة لبورسعيد فى محاولة مؤسفة لرشوة أهل المدينة. يتخيل مرسى أن أهل بورسعيد سينسون دماء أبنائهم مقابل أموال المنطقة الحرة.
العصيان المدنى حق قانونى للمصريين يكفله القانون والمعاهدات الدولية التى وقعتها الحكومات المصرية. واجبنا أن نقاطع هذه الانتخابات لأنها ملطخة بدماء جيكا والحسينى وكريستى والجندى والشافعى وغيرهم من الشهداء الذين ضحوا بحياتهم حتى نعيش نحن فى دولة عصرية ديمقراطية تحترم آدمية مواطنيها وترعى حقوقهم. الدم سوف يعلق بيد كل من يشترك فى هذه الانتخابات الباطلة. فلنقاطع الانتخابات وننضم إلى العصيان المدنى حتى تتحرر مصر من قبضة القتلة. الثورة مستمرة حتى تحقق أهدافها بإذن الله.
الديمقراطية هى الحل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق