جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - سياسه

جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - اقتصاد

الثلاثاء، 26 فبراير 2013

علام يكون الحوار؟!


http://www.elraees.com/index.php/mian/files/item/2590
بقلم : عبد المنعم سعيد

اشتهرت كلمة «الحوار» فى القاموس السياسى المصرى، مرة بمعنى طيب؛ حيث تجتمع أطراف متعددة ومتنوعة ومختلفة ومتنافسة لكى تتعاون فيما ينقذ البلاد والعباد من أخطار محدقة، ومرة بمعنى شرير؛ عندما يستخدم المذكور، الحوار، فى التلاعب بالمسرح السياسى وكسب الوقت والتخلص من الضغوط، وإحراج الخصوم، وكسب نقطة لدى الرأى العام فمن يتحاور ليس كمن يرفض الحوار. وسواء كان المعنى طيبا أو شريرا فإن الحوار ظل ضائعا، ومعه بدا كما لو كان الجميع يفضلون الحوار السائد صاخبا فى وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية الذى لا يزيد كثيرا على حوار «الطرشان». ولكن المشكلة فى هذا المنطق الذى قد يرضى أطرافا كثيرة حيث يستهلك الوقت ويتجنب اتخاذ قرارات صعبة، أنه يغفل الحاجات الأساسية للبلاد التى لم تعد تتحمل مرحلة انتقالية طالت أكثر مما ينبغى ولو سارت فى مسارها الحالى فربما تصل إلى تلك النهاية الدرامية التى وصلت إليها الثورة المصرية فى رواية عز الدين شكرى «باب الخروج» حينما وصلت البلاد إلى حافة الفناء، ولم يبق فيها من أمل إلا عودة الشباب بذهن صاف إلى البحث فى الكيفية التى تتقدم بها مصر.
ولكن المؤلف فى الرواية كان يتحدث عن عام ٢٠٢٠، وما نحن الآن إلا فى عام ٢٠١٣ فى ذروة المأساة الثورية حيث تتصادم أقدار محتومة، وتتحالف وتتآلف قوى وتنفصل عن بعضها البعض فى تسارع مخيف حتى سقط الوطن كله من الذاكرة القومية وحل محله معسكرات الإسلام السياسى على أشكاله، والعسكر على اختلاف أنواعهم، والمدنيون على تنوع اختلافاتهم، واختلط الأمر ما بين أهل «للكنبة» على اختلاط ألوانها، بينما حارب استقرارهم جماعات للفوضى يتحدث عنهم الفوضويون فى العالم بتقدير واحترام. هذه هى حالتنا ساعة «الحوار» الذى يبدو مستحيلا من ناحية، وفى الوقت نفسه لا يوجد بديل له من ناحية أخرى. كيف نحل هذه المعضلة الكبرى ما بين المستحيل وعدم وجود بديل آخر، هذه هى مهمتنا بقدر ما هى مأساتنا فى الوقت نفسه، لأن فى المهمة يكمن «باب الخروج» من مسيرة دامية لكى يتيح بابا للدخول إلى مستقبل ضاع التفكير فيه نتيجة الانشغال باستمرار مسيرة الثورة مرة، والسعى نحو الاستقرار مرة أخرى، وما بينهما ألف صنف من الظلال.
تعالوا نحاول إجراء نوع من «الحوار» المعقول، أى ذلك الذى لا ينتهى قبل أن يبدأ، ومن ثم فإن طريقته لا تقل أهمية عن المضمون. وفى الأوقات المعقدة تعقيد زماننا المركب فإن الحوارات التليفزيونية لا تنفع، ولا يخدعنك ذلك الذى يقول بضرورة «الشفافية» فلم يحدث أن تمت عملية جراحية على رؤوس الأشهاد، ولا جرى قبلها فتح حجرة العمليات لتفتيش الشعب ومشاهدة الضحية فى أسوأ حالاتها. ولكن من الممكن أن يكون هناك متحدث رسمى واحد لا يظهر غيره خلف الميكروفونات الكثيرة والتى يتكالب عليها كل من يريد التقاط صورة حتى فى لحظة الجنازة الوطنية. أعرف أن تلك مهمة صعبة، بل قد تكون مستحيلة، لاحظ هنا كيف كان يبدو د. وحيد عبدالمجيد، المتحدث الرسمى باسم الجمعية التأسيسية، أو كيف ظهر دائما الأستاذ خالد داوود، المتحدث الرسمى باسم جبهة الإنقاذ الوطنى.
وحتى لا تختلط الأمور فإن بعضا من الاحتجاب لن يكون ممكنا إلا إذا كانت الأطراف محدودة، وليس ضروريا أن تمثل حسبما شاع كل ألوان الطيف، وإنما يكفى أن تمثل الكتلة الحرجة من المصريين ومعيارها الانتخابات النيابية والرئاسية الأخيرة فهذه قدمت مقياسا بالآلاف أحيانا وبالملايين أحيانا أخرى لمدى التأييد الشعبى خلال المرحلة الماضية. هؤلاء من أحزاب وشخصيات وحركات سياسية يمثلون مهما كان الضعف فى المقياس شرعية التمثيل، والمشاركة فى الهم الوطنى. لغة الحوار لا أعرف هل هى فى الشكل أم المضمون، وإنما هى فى مكان ما بينهما، ولكنها لا تقتصر على استبعاد ما شاع من لغة التخوين والتكفير والاستعلاء، فما وجب معها أيضا استبعاد الحديث عن الصدق فى ناحية والكذب فى ناحية أخرى، فما كان من تاريخنا إلا حفنات كثيرة من الأكاذيب كان فيها من بشّرنا بالعزة والكرامة، ومن أكد علينا بفضيلة العلم والإيمان، ومن بشّرنا بإمكانية أن تكون مصر قطعة من أوروبا، ومن جعلنا دون أن نعرف نمرا على النيل مرة، ودولة بازغة مرة أخرى.
ليس سهلا أن ننتقل من الشكل إلى المضمون، ولكن الثابت من كل الدراسات على الدول التى خاضت تجارب المراحل الانتقالية بعد ثورات كبرى، أن الحوارات عن «الهوية» وتطبيقاتها غالبا ما تؤدى إلى الصراع والصدام، ولكن عندما يكون الحوار حول «الشأن العام» فإن فرصة وجود أرضية مشتركة ليست بعيدة المنال. «الشأن العام» يقوم عليه جوهر البرامج السياسية ليس على طريقة البرامج الانتخابية لممثلى الشعب أو الأمة، وإنما تلك التى تضع أهدافا محددة مثل وصول «المرحلة الانتقالية» إلى نهايتها الموعودة. وقبل الثورة المصرية كان واحد من أهداف المصلحين أن تصير مصر «دولة طبيعية» حتى صدر لى كتاب تحت هذا العنوان، وكان الغرض ساعتها التخلص من الدولة البيروقراطية التى جعلت «الشأن العام» ليس كمثله شأن فى العالم كله. الآن لا يزال الهدف باقيا ولكن الطبيعة باتت صنوا للاستقرار فلا يصلح برنامج ثورى أو إصلاحى، مثالى أو واقعى، دون انخفاض حرارة الوطن كله حتى يجوز له العلاج، ويمكن فيه إجراء العمليات الجراحية.
المسألة كلها يدخل فيها ما هو واجب فى أى دولة من الإصلاح الأمنى، ليس بزيادة تسليح قوات الأمن مع بضع محاضرات عن حقوق الإنسان، وإنما بتركيز الأمن على مهمته الأساسية وهى مكافحة الجريمة وليس إدارة الدولة كلها من أول إصدار الرقم الوطنى وحتى الإشراف على الانتخابات وما بينهما من أمور. وما حل الأزمة الأمنية إلا مقدمة لحل الأزمة الاقتصادية ليس وصولا إلى رخاء مفتعل، وإنما يكفى أن تدور العجلة الاقتصادية بتشغيل ما توقف واسترداد ما راح وبعث ما كاد يموت. ومن الطبيعى أن تكون الأزمة السياسية هى قلب الحوار، ولكن حلها لن يكون إلا من خلال صناديق الانتخابات النزيهة التى لا توجد ضرورة لوجود وزارة جديدة بشأنها، ولكن يكفيها رقابة القضاء من ناحية، وحماية الجيش من ناحية أخرى، والمراقبة الدولية من خلال أجهزة الأمم المتحدة المتخصصة من ناحية ثالثة.
كل ما سبق يحتاج ما هو أكثر من التفاصيل التى هى مهمة النخبة السياسية التى عليها أن تفرق بين تلك التفاصيل الضرورية للتوصل إلى نتائج مفيدة، وبين تلك التى تسعى لإغراق الساحة بما يصرف الجميع عن الأهداف الأصلية للخروج بالوطن من حالته الراهنة التى لا تسر عدوا ولا حبيبا إلى حالة أخرى ربما تكون أفضل مما وصلنا إليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق