جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - سياسه

جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - اقتصاد

الخميس، 7 مارس 2013

عميـد الوحـدة الوطنيـة

http://www.elraees.com/index.php/mian/opinions/item/2986
بقلم : محمد عبد الشافي القُوصي

عندما استُشهِدَ الشيخ حسن البنا سنة 1949م أمام مبنى الشبان المسلمين بوسط القاهرة، ظلَّ جثمانه ينزف دون توقف، ولمْ يُسمَح لأحدٍ بالاقتراب منه! فإذا بشاب صعيدي شهم؛
يخترق الحواجز الأمنية، والحشود البوليسية؛ ويحمل الجثمان، دون رهبةً، ولا تردد!!
إنه السياسي القبطي، والمناضل الوفدي؛ الذي لمْ تشهد الحياة المصرية نموذجاً فريداً للتعايش والوئام بين أتباع الأديان مثله أبداً؛ فقد صار مضرب الأمثال في السماحة والمودة بين المسلمين والأقباط، حتى ظنَّه الجميع مُسلِماً من فرط دفاعه عن الإسلام، وكثرة استشهاده بآيات القرآن الكريم، والحديث الشريف؛ في خُطَبه ومرافعاته، وحبه الشديد لنبيّ الإسلام ورسالته!
أجل! إنه (المحامي البليغ) الذي كان يُهنِّئ المسلمين والمسيحيين معاً بالأعياد الدينية، فيقول: "فما من عيدٍ للمسلمين أوْ للمسيحيين من المصريين إلاَّ وتُفتح له الدور، مع المُعَيِّدين، لا عن مجاملةٍ، بلْ عن مؤاخاةٍ ومجاورةٍ ومزاملة، وأمَّا من ناحية الدين، أفتجمعنا في الوطن محبة الأقاليم، ولا تجمعنا في الله الرحمن الرحيم؟ أو نكون إخوةً في الوطن، وفي إنسانية هذا العالم الأصغر، ولا نكون إخوةً في الله، والله أكبر..؟"!
بلْ استمع إلى كلمته التي ألقاها عام 1943م، بمناسبة الذكرى الألفية للجامع الأزهر، قال: "لعلَّ أصدق ما يُهَنَّأ به الأزهر الشريف في عيده الألفي، أنَّ رسالته التي صمدتْ للزمان ألفَ سنةٍ، إنْ هي إلاَّ رسالة حقٍ لن يطويها، بل سيُنَمِّيها تعاقُبُ آلافٍ أخرى من السنين، وإذا كان لي- كمصري له عقيدته الوطنية- أنْ أفخر بالأزهر الشريف معهداً مصرياً؛ فإنَّ لي كرجلٍ له عقيدته الروحية أن أُشيدَ به معهداً دينياً، ذلك لأنَّ الله -الذي شاء للناس أن يختلفوا على الأديان- لنْ يسمح لهم بالاختلاف على الدين. ولقد أدَّى الأزهرُ رسالةً للدين والدنيا معاً، مُدرِكاً قبل غيره أنَّ العلم البشري لن يُكْتَبَ له البقاءُ، إلاَّ إذا اقترنتْ فيه المادة الخامدة بالروح الخالدة"!
بلْ كان بيته أشبه ما يكون بواحدٍ من مقار "حزب الوفد" الذي يؤمه الأعضاء ليلاً ونهاراً .. وكان مدرسةً لتعليم الوطنية، ومسرحاً للنضال والكفاح ضد الاحتلال البريطاني. كما أنه ليس أمراً يسيراً العثورُ في التاريخ الحديث للأقباط على شخصية تعكس الدور الوطني في الحياة السياسية المصرية أفضل من مكرم عبيد؛ لِمَا تميز به من قدرة وتأثير.
وقد دعا سنة 1939م إلى ضرورة تكوين كيانٍ يضم نسيج العرب، وكأنه كان يتنبَّأ بمولد الجامعة العربية! فقال: "المصريون عرب .. والوحدة العربية من أعظم الأركان، التي يجب أن تقوم عليها النهضة الحديثة، في الشرق العربي .. إنها حقيقة قائمة وموجودة، ولكنها في حاجة إلى تنظيم لتصير أوطاننا جامعة وطنية واحدة"!
وقال عن تزامل العروبة والإسلام في تشكيل هوية الشرق، بكل أبنائه ودياناته: "نحن مسلمون وطناً، ونصارى ديناً، اللهمَّ اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين"!
وعقب الإفراج عنه من السجن عام 1944م عُيِّن وزيراً للمالية: "فألقى خطبةً رائعةً في قاعة الوزارة، بأسلوبٍ فيه ابتهالٌ مُخلِصٌ لله، تحدَّث فيه عن الوحدة الوطنية، بين المسلمين والأقباط، وأعاد تأكيدها، وكان الإمام/ المراغي-شيخ الأزهر آنذاك- موجوداً هناك، فعلَّق على ما اتَّسم به خطاب عبيد من بلاغةٍ، بأنه: حديثٌ شبيه بكلامِ المتصوِّفة"!
ولعلَّ أبلغ دليل على حبه لنسيج الأمة المصرية المترابطة، وتغلغل الثقافة الإسلامية في شرايينه؛ أنه ذهب للدراسة بالأزهر الشريف بمحض إرادته، وهو صغير السن؛ فنال قِسطاً كبيراً، من العلوم الإسلامية، وكان من أثر هذه التنشئة الأزهرية أن حفظ القرآن الكريم، وبسبب ذلك أتقن اللغة العربية، فكان من بُلغائها، لدرجة أنه كان يستشهد بآيات القرآن!
إنه (مكرم عبيد) الذي وصفه الدكتور/ محجوب ثابت، فقال: إنه خطيب يؤثِّر بالعاطفة كالموسيقى، وهو صديق مُخلص، وعدو جبَّار، وإنه مَلاكٌ في صداقته، شيطانٌ في خصومته"!
وفي مقدمة كتاب (المكرميات) وصفه الأستاذ/ عباس العقاد، قائلاً: "إنه مزيجُ اهتماماتٍ متنوعة، ونشاطاتٍ مختلفة، مع موهبةٍ في الأدب والسياسة".

لقد برزت -أثناء ثورة 1919م وما بعدها- شخصية الثائر الوطني/ مكرم عبيد- الذي تمتع بشخصية عظيمة بين المسلمين والأقباط على السواء، ولمْ يُتَّهَم قط بالعمل على أساس مصالح الأقلية التي انبثق منها، بلْ كان على العكس يقتبس من القرآن في أحاديثه ومرافعاته القانونية، حتى قيل: إن مكرم عبيد، وواصف غالي، من بين أكثر السياسيين الأقباط نجاحاً، ويميلان في سلوكهما السياسي إلى التصرف بحماس يفوق حماس زملائهم المسلمين!
ولعلَّ من فطنة الزعيم/ سعد باشا زغلول، وكياسته؛ إعجابه بعبقرية الشاب القبطي/ مكرم عبيد؛ لإخلاصه وكفاءته النادرة، وما يمكن أن يُنتَظر من توظيف قدراته وملكاته في خدمة الوطن؛ لذلك قرَّبه إليه، حتى أسماه "ابن سعد"؛ إذْ لم يكن له ولد! فجعله مبعوثاً خاصاً له أثناء المفاوضات في لندن؛ فأبلى بلاءً حسناً، واستطاع التأثير في الرأي العام البريطاني، والكتابة في الصحافة هناك عن عدالة القضية المصرية، وضرورة تحقيق الاستقلال!
يمكن القول:إنَّ ثورة 1919م تمثِّل بداية العصر الذهبي لمشاركة الأقباط في الحياة السياسية تحت رايات الوحدة الوطنية، حيث برز فيها دور (مكرم عبيد) الوطني، الذي من الممكن أن يتكرر إذا ما أمكن توفير مناخ ديمقراطي وليبرالي مناسب للذي شهدته مصر في ثورة 1919م الشعبية!
والملاحظ أنه بعد حدوث الانشقاقات في حزب الوفد أيام سعد زغلول؛ فإنَّ ما فقده الحزب بخروج الثلاثي الوطني (عدلي، ولطفي السيد، ومحمد محمود) فقد كسبه الوفد في الأعضاء الجدد، وعلى رأسهم المحامي الشاب/ مكرم عبيد –الذي صعد نجمه، فأصبح سكرتير الحزب، وهو المنصب الذي شغله طوال عقدين من الزمان تقريباً.
في كتاب "الأقباط في السياسة المصرية" يقول الدكتور/ مصطفى الفقي: إنَّ مكرم عبيد هو الوحيد من بين السياسيين الأقباط الذي عبر حاجز الأقلية، ليصبح شخصية عامة متمتعاً بشعبية واسعة بين المسلمين قبل الأقباط، كما كان أول قبطي يتولى مسئولية رئيسية في حزب الأغلبية، فقد نجح في أن يصنع جسوراً قوية مع الرأي العام المصري لسنوات طويلة. وعلى الرغم من أنه لم يصبح رئيساً لوزراء مصر، فإنَّ إسهامه في السياسة المصرية الرسمية أعظم من إسهام كثيرين تولوا مسئولية ذلك المنصب!
ويقول عنه أيضاً: طوال تاريخ مكرم عبيد؛ فإنه لم يحد عن جوهر مواقفه الوطنية، ولا عن الخط الوطني السياسي الذي كان يلتزمه أثناء توليه أمانة حزب الوفد، فلقد شارك السعديين والأحرار في وزارة 1944م، ولكنه ما لبث في عام 1946م أن خرج من الوزارة ومن الوفد الرسمي الذي كان قد شُكّل لمفاوضة الإنجليز، رافضاً ما رضي به آخرون من مساومات تتعلق بالجلاء والدفاع المشترك. كما يُذْكَر لمكرم عبيد أنه كان من أكثر قيادات الوفد تفهماً للوضع العربي لمصر منذ الثلاثينيات. كما أنه كان يبز آخرين في إدراك أهمية المكوِّن الإسلامي في الوطنية المصرية!
لقد استطاع -مكرم عبيد- بمواهبه الخطابية والبيانية والفقهية أن يظفر بمركز الصدارة، وأن يحتل مكان الطليعة في مهنة المحاماة، وأن يفوز مرةً تلو الأخرى بمنصب (نقيب المحامين) حتى لم يتيسّر إقصاؤه عن كرسي النقيب إلاَّ بإجراءات التزييف والتزوير!
والواقع أن خبرته كمحامٍ ساعدته كثيراً كسياسي، لأنَّ المحاماة كمهنة كانت امتداداً لنشاطه السياسي .. فقد كان محامياً ناجحاً بكل المقاييس، ومازالت أصداء مرافعاته حاضرةً في تاريخ المحاماة في مصر. وقد كان يعتمد في دفاعه على التحليل المنطقي لدوافع الجريمة، ويتصور نفسه في موضع المتهم أمام المحكمة!
من هنا؛ قام مكرم عبيد بالدفاع عن "عباس العقاد" الذي كان متهماً بالسب في الذات الملكية، من فوق منبر البرلمان، فكان مما قاله -مكرم- في المحكمة: "إنَّ العقاد الكاتب، والعقاد النائب في البرلمان ليس مُداناً بالعيب في ذات صاحب الجلالة، وإنه قد تلقَّى معاملةً سيئة أضرَّت بصحته دون أن يُستجاب لشكواه، وقد واصل عبيد مرافعته في المحكمة، فقارن بين الموقف الذي يواجهه العقاد، وما واجهه رسول الله -صلوات الله عليه- من عَنَت قومه واستبدادهم!
لا جَرَمَ أنَّ دفاع مكرم عبيد في محاكمة العقاد؛ كان من أروع وأشهر المرافعات في تاريخ المحاكم المصرية!
مَنْ هو "مكـرم عبيـد"؟
وُلِد (مكرم عبيد) في أكتوبر 1889م بقرية (نقادة) التابعة لمدينة قوص بمحافظة قنا، وكان جده الأكبر لأبيه قد تزوج من ابنة المعلِّم/ جرجس الجوهري، الكاتب الأول في ديوان علي بك الكبير. وقد عملت أسرته بالمقاولات والإنشاءات الهندسية، فقامت بإنشاء خط السكة الحديدية بين نجع حمادي والأقصر، وعند إتمام هذا المشروع الكبير؛ قلَّد الوالي والده "الوسام المجيد" وأنعم عليه بلقب "الباكوية"!
ثم سافر مكرم عبيد إلى (لندن) سنة 1905م وهو في السادسة عشرة من عمره، فكان واحداً من أبرز الطلاَّب الذين درسوا في (الـنيو كولِدج) بأكسفورد! حتى قال عنه عميدها: "إنَّ الكلية لم تعرف من قبل طالباً أصغر في العمر من "وليم مكرم عبيد". كما امتدح العميد تقدمه الرائع في اللغة الإنجليزية، فداعبه قائلاً: إنه سوف يسلك نفس الطريق الذي سلكه وليم شكسبير، ويتبع نفس خطواته!
كان من عادة (مكرم عبيد باشا) ألاَّ يذهب إلى عمله في الصباح؛ حتى يستمتع بصوت القارئ الكبير/ عبد الباسط عبد الصمد! فكان يتفاءل جداً بقراءته؛ لدرجة أنه حضر له أمسية دينية، فكتب في اليوم التالي مقالة بجريدة الفتح، بعنوان "صاحب الحنجرة الذهبية! بلْ قالت لي كريمته الدكتورة/ منى: عندما كان يسافر خارج الوطن؛ كان أول شيء يحرص على وضعه في حقيبته؛ أشرطة بصوت الشيخ/ عبد الباسط! ليس هذا فحسب؛ بلْ إنه عاد إلى بيته –ذات مرة- وعليه سحابة من الحزن؛ لعدم قضاء بعض مشاويره ... فبرَّرَ ذلك قائلاً: يبدو أنَّ الشيخ/ عبد الباسط- نسيَ أنْ يدعُ اللهَ لي في هذا اليوم!
عندما تُوُفِّيَ مكرم عبيد في 5 يونيو 1961م، ألقى أنور السادات- الذي كان وقتها رئيساً لمجلس النواب- خطاباً في تأبينه بالكاتدرائية المرقسية بالعبَّاسية، فأشاد بنضاله الوطني، من أجل الاستقلال، وقال: "إنَّ أبطال 1952م يطمحون أن يمضوا على طريق النضال، الذي بدأه أبطال 1919م، وضحُّوا من أجله"!
هذه صفحة من كتاب، وفصل من فصول حياة المناضل الوطني/ مكرم عبيد!! فلا نعجب عندما نقرأ ما نشرته جريدة الأهرام أثناء ثورة 1919م بأنه "تمَّ إطلاق اسم زعيم قبطي على مولودٍ مسلم، وكان ذلك من أكثر مظاهر الامتزاج الاجتماعي في مصر، "فقد رُزِق حضرة كامل أفندي عثمان، من أعيان أبو قرقاص المُسلمين بالمنيا، مولوداً ذكراً أسماه (مكرم عبيد) تقديراً لجهود المناضل الوطني/ مكرم عبيد، وتمكيناً لأواصر الإخاء الوطني"!
ولقد أحسنتْ الأُمة المصرية إلى هذا الرجل، كما أحسن إليها؛ فأطلقتْ اسمه على أعرق شوارع (قوص) والذي يتجاوز ثلاثين كيلو متراً بمحاذاة نهر النيل العريق! كما سُمِّيَ باسمه أكبر ميادين قنا، وسُمِّيَ باسمه –أيضاً- شارع شهير بشرق القاهرة، فضلاً عن اطلاق اسمه على كثير من المدارس، والمصحات، والأندية!
في المقابل؛ من المستحيل أن تُخلّد الدولة أسماء الطغاة والمجرمين، والمتاجرين بالمذاهب والمعتقدات، والهاربين من السجون، أمثال: (مُرسِـي) وإخوانه في الرضاعة من السلفيين التافهين ... قاتلهم اللهُ أنَّى يُؤفكون! ا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق