جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - سياسه

جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - اقتصاد

الخميس، 14 مارس 2013

ربيع العميان


http://www.elraees.com/index.php/abdelrazeq/item/3235
بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر

يحكى أن ضريرا وقف طويلا في انتظار طرقة على الكتف أو تحية صباح باردة من عابر طريق .. كانت الشمس حارقة والأنفاس حارة ودخان السيارات يزكم أنفه ، لكن أحدا من المشغولين بذواتهم لم يعرض عليه مرفقا أو يلتفت إلى وجهه المجعد أو يضع راحته فوق يد أضناها الانحناء الممض فوق عصاها الخشبية المقوسة ..

وبعد أن تملك اليأس من رحمة البشر قلب الضرير ، جاءته طرقة النجاة من حيث لم يحتسب ، وتبعها صوت مغضن مشقوق يقول : "بالله ساعدني كي أعبر "إلى الناحية الأخرى من الشارع ، فأنا رجل ضرير كما ترى ..

لم تنته القصة قطعا عند هذا الحد ، ولكنني أكتفي بهذا القدر عزيزي القارئ لأنني لا أريد أن تتحول المأساة علي يدي إلى قصة طريفة تفرك بعدها عينيك وتدير ظهرك للمقال وتتثاءب ..

لا أريد أن أحملك على ظهر كلماتي هنا نحو الأحلام الفستقية التي مللتها وملتك ، لكنّي أريدك أن تقف بحزم يتناسب مع خطورة الحدث ، وأن تفرك عينيك لتنتبه وتدرك حجم مأساة رجل وجد نفسه فجأة فوق ناصية خريفية بين إخوة شغلتهم شئونهم الصغيرة حتى النخاع ؛ فلم يتطوع أحدهم بفضل وقته لينقذ رجلا ساقته الأقدار التعسة إلى رصيف بائس في يوم قائظ بين إخوة يهرولون يمينا ويسارا ولا يلتفتون إلى أحد ..

أريدك أن تقف الآن في حذاء ذلك الرجل ، وأن تقبض على عصاته وتنتظر .. أريدك أن تفتح منخاريك لتتنشق عوادم السيارات وتراب الأحذية المهرولة فوق رصيف ترابي في ظهيرة يوم حار .. تتأفف من رائحة عرق المارة وأصوات الباعة الجائلين وهمس العشاق وصياح المارة .. وتأبى أن تمسك بجلباب أحدهم أو معطفه لأنك ترفض نظرات الاشمئزاز التي لا تراها في أعين الناس أبدا لأنك ببساطة لا ترى ..

والآن ، تخيل أن فيروساً خطيراً أصاب أعين الناس كما أصاب أفئدتهم ، وأنه لا فضل لعين فوق رصيفك الكئيب على عين ..

تخيل أنك تعيش في عالم من الأضراء الذين يمشون على غير هدى وأنكم جميعا تنتظرون من يحملكم إلى الجانب الآخر من رصيف الانتظار ، وأنكم تنتظرون وتنتظرون دون أن يتغير شيئ إلا الصخب وتمتمات المارة وأبواق سيارات متوقفة لا تجد مبصرا يقودها نحو أي غاية ..

تخيل الآن أنك مواطن عربي نَبَتَّ في أرضنا فجأة ، أو أنك سائح انتقلت إلى بلادنا الربيعية الصاخبة فوق جناحي فراشة ثورية .. وأنك الآن تقف وسط قرية عاجزة أو في حلق مدينة ضريرة وأن المارة لا يرونك ولا تراهم ، وأنكم جميعا تنتظرون ما لن يأتي ، وأن الشمس تلفح وجوهكم الكالحة ذات يوم حار ..

ما الفرق يا صديقي في عالم العمى بين رصيف ورصيف ، أو بين يد قابضة على عصاها ، ويد تربت على الكتف ؟ ما الفرق بين انتظار وانتظار ؟ ما أسوأ أن تشعر اليوم أنك خرقة سوداء من ثياب مدينة مظلمة كالقاهرة ، أو أنك مسعف ضرير في سيارة إسعاف يقودها أعمى في شوارع اليمن الحزين ..

ما أقسى أن تتسول الأنفاس وتتنفس الدماء فوق رماد مدينة عريقة كدمشق ولا تجد مفرا من الظلام إلى الظلام إلا ربتة رقيقة على كتفك من ضرير ضال ! وما أبأس شعورك وأنت تتنقل في شوارع القيروان مغمض العينين فلا ترى أسماء الشوارع وجمال الضواحي ! ما أشق أن تتجول فوق أرصفة ليبيا فلا تسمع إلا أزيز الرصاص وصرخات القتلى !

ماذا ينتظر من ينتظر فوق رصيف العمى أيها الصديق ؟ وأي سخف يحملنا على البقاء حيث مواقعنا المنتنة فوق خارطة التاريخ المعتمة ؟ بالله تحركوا أيها الواقفون في انتظار ما لن يأتي .. تحركوا في أي اتجاه ولو إلى الخلف ..

مَلَّت الشوارع دبيب أقدامكم ورائحة العرق المتصبب من أجسادكم الواهنة .. عودوا إلى ثكناتكم أو تقدموا نحو أي خلاص ، فلن يأتيكم الخلاص على صينية من بلادة .. تقدموا نحو طيبتكم ومدوا أياديكم الراعشة نحو أي آخر ، واربتوا فوق كتف أي عابر طريق ، وتعاونوا على العبور نحو أي ناصية ، ولا تنتظروا فاجرا من شرق أو كافرا من غرب ليقودكم بعينين لا تبصران إلا أذاكم .. وإن اخترتم الانتظار ، فأفسحوا لعظامي الواهنة مكانا كي ترقد بينكم رقدة البغاء ..

عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق