جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - سياسه

جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - اقتصاد

السبت، 9 مارس 2013

أجران التاريخ المقدسة


http://elraees.com/index.php/abdelrazeq/item/3044
بقلم : عبد الرازق أحمد الشاعر

ذهب أهالي كوب الألمانية ذات مجاعة إلى الأسقف هاتو الثاني، ووقفوا أمام إبرشيته ببطون عصرها الجوع واليأس إلا من رحمته. وبعد جلبة وصياح، خرج رئيس الأساقفة على قومه في زينته وفي يده مفاتيح مخازن الغلال، وألقى عليهم خطبة عصماء ذرفت لها الدموع ولانت لها القلوب وخشعت لها الأصوات، لكن أحد البسطاء لم يع مما قال الرجل شيئا، وظل يشعر بذراع الجوع يلوي أمعاءه ليا. فانتصب على أطراف أصابعه حتى يراه هاتو، وصاح بأعلى صوته: "الطعام أولا."

غضب هاتو الثاني كثيرا من فظاظة الرجل، لكنه تمالك رباط زيه المقدس، وقال بأدب جم: "إلى البيدر." وما إن قالها حتى تحلقت حوله آلاف الأقدام وتنازعت مواقعها منه. وبعد دقائق معدودات، لم يجد الوافدون على بيدر الأمل موطئا لقدم. وبعد قليل، شاهد من بقي حيا من أهالي كوب ألسنة اللهب تتصاعد من بيدر هاتو، وشموا أبخرة الغدر تتصاعد مع رائحة من استجاروا من الرمضاء بالنار، فلم يبق منهم إلا ذكرى مؤلمة وبقايا متفحمة.

لا يعنينا هنا ما حل بهاتو الثاني بعدها، لأن ذلك لن يغير من أحزاننا على من رحلوا شيئا. فما معنى أن يعدم الرجل أو يصلب لتأكل الطير من رأسه؟ وهل يجفف ظمأنا للعدالة دماء التاريخ النازفة من جروح البسطاء؟ ماذا لو عرفنا أن نهاية الرجل كانت على يد بلطجي أو مرتزق؟ أو أن المنية قد وافته عام 913 على سرير من ريش النعام في دولة فر إليها ببضاعة مزجاة من آمال الفقراء ودمائهم؟

لا يحفظ التاريخ أحكام القضاء العادلة، ولا يهتم بتدوينها في سجله الكبير المليء بالمظالم والدموع والآلام. ولا تحفظ كتب التاريخ إلا أسماء الطغاة الذين يسرقون أرغفة الأمل من أيادي البسطاء. يقول التاريخ "ذهب حشد من البسطاء" دون أن يذكر ملامحهم أو يعلق على أزيائهم، لكنه حين يتحدث عن أحد الطغاة أو بعض المفسدين، فإنه يحتفظ بسجلاتهم كاملة مدعمة بالصور في أرشيفه غير المحايد وغير النزيه.

للبسطاء إذن تاريخ لم يدونه أحد، ولا يكترث لقراءته أحد، لأنهم مجرد كومبارس في بلاط الطغاة الذين يجيدون قنصهم بحيل شتى على مر العصور. ولا يمل التاريخ من تكرار فصوله، لكن أحدا من المتابعين لا يهتم باستنباط أحكامه واستكناه رؤاه.
اليوم يعود هاتو من أوراق تاريخنا الصفراء، ليعيد تمثيله بأحلام البسطاء الذين تحلقوا حول بابه ذات يأس ووثقوا بثيابه وتعابير وجهه. اليوم يخرج هاتو في زينته على قوم وجدوا أنفسهم على رصيف الحياة فجأة في انتظار ما لن بجيئ. اليوم يحرق هاتو البلاد بمن فيها وما فيها لينعم هو بالبقاء في قصر وسط الماء كما تقول الرواية المطعون في حياديتها.

يخرج هاتو على الجائعين إلى العدالة في بلاد امتلأت ظلما وجورا ممسكا في يمينه بوعود كاذبة ليتحلق حوله الواثقون بأجرانه المقدسة. وعندما يجتمع الحشد في بيدر الأمل، يخرج الرجل عود ثقاب ليشعل سيكارته المقدسة، ثم يلقي بمؤخرتها في بيدر تكدس فيه الواهمون من البسطاء. اليوم يقف المصريون ليشهدوا تاريخ حريق جديد في بيدر وحيد علقوا عليه ثياب آمالهم ليغرر بهم سفهاء التاريخ ويشعلوا النار في أجسادهم النحيلة وعروقهم الجافة البارزة. لكن أحدا من الرواة لن يذكر من وقفوا على أطراف أصابعهم ليرفعوا أصابعهم في وجه التاريخ ويفضحوا مؤامرته المتكررة.

عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق