جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - سياسه

جريدة الرئيس - جريدة الرئيس - اقتصاد

الجمعة، 8 مارس 2013

دروس من الباستيل


http://elraees.com/index.php/abdelrazeq/item/2990
بقلم : عبد الرازق أحمد الشاعر *
  
ذات غضب، تحركت قطعان غير منظمة من بسطاء الفرنسيين نحو سجن الباستيل لتحرير من فيه من السجناء. والحقيقة أن السجن لم يكن يؤوي يومها إلا سبعة من الأشقياء ليس بينهم سجين سياسي واحد. لكن حين يُعرف السبب يتوقف دارسو التاريخ عن العجب. ففي تلك السنة العجفاء سجل مؤشر حقوق الإنسان في فرنسا تراجعا واضحا، وتحولت باريس إلى سجن كبير لإيواء العجزة الذين لم يتمكنوا من الفرار من ظلم لويس السادس عشر ونزقه.
وفي تلك السنة، تحولت سياسات الملك الفاشلة إلى ضرائب باهظة أثقلت كواهل البسطاء ودفعت الأثرياء إلى دعم التمرد. وفي الرابع عشر من يوليو، اندلعت شرارة الغضب في سجن الباستيل، رمز القهر الفرنسي.
يومها كان الملك في رحلة صيد يطارد أفكاره العابثة وخيالاته المريضة، لكنه عاد إلى قصر فرساي ليجد دوق ليانكور في انتظاره. لم يكن على جدول أعمال صائد الفراشات يومئذ أي مهمة. لهذا، نظر الرجل في عيني ضيفه مستفسرا، فقال الرجل وحمرة الخجل تعلو وجهه: "استطاعت جماعة من الدهماء السيطرة على سجن الباستيل يا سيدي."
وحين بدا على وجه الملك القلق، أراد الضيف أن يخفف من وقع الخبر على نفسه، فأردف قائلا: "إنه مجرد تمرد يا سيدي." لكن الملك الذي كان أدرى بشعاب باريس رد على الفور: "ليس الأمر مجرد تمرد أيها الفارس، إنها الثورة." وصدق الملك، وكانت الثورة.
لكنها لم تكن ثورة الباستيل كما يحلو لبعض المؤرخين أن يصوروها، بل كانت ثورة فرنسا على الفساد والظلم والاستبداد. صحيح أن الشرارة تعرف موطنها، لكنها لا تقف عند حدود الحرس الملكي أو سياج القصر. ربما تخطئ الثورة بداياتها، لكنها تصحح دوما مسارها وتنتهي بتحرير الإنسان من كافة المعوقات التي تقف في مجرى التنفس في قصبة هواء البلاد.
الثورة لا تأبه للمسميات إذن. يمكننا أن نسميها تمردا أو بلطجة إن كنا لا نريد أن ننادي الأشياء بأسمائها، لكنها حتما تفرض قلقها على ملامحنا وساحات أفكارنا، وتطاردنا في مرابع الحلم حتى حدود الكوابيس. ولن تغني عن الملك حاميته التي لا ترى في الوحي إلا أضغاث أحلام، ولا تنظر للخارجين على سلطانه إلا بعين الريبة والاتهام.
يمكن لملك فرنسا أن يستمع لنصائح مستشاريه، فيوكل الأمر لحامية القصر ويخرج لمطاردة أحلامه العابثة في غابات الخيال، لكنه لن يستطيع أن يغمض عينيه عن برك الدماء ولا أن يتجاهل صرخات المكلومين وإن وضع أصابعه في أذنيه. للمستشارين إذن حساباتهم، وللملوك رؤاهم، لكن طوفان الثورة أعلى دوما من بوابات القصور وأسوار الباستيل.
من سجن الباستيل، لم يخرج سبعة نفر من الأشقياء فقط يوم فتحه البسطاء ردا على القمع. بل خرجت فرنسا بأسرها من رق الملوك، وخرج دستور فرنسا وألوان علمها. وخرجت مواثيق حقوق الإنسان، ومن الباستيل انتشر شذاها في جهات العالم الأربع. يستطيع الحاكم إذن أن يغلق الباستيل، وأن يضع حامية من المخلصين لقمعه حول أسواره العاليه، لكنه لن يملك لغضبة الثائرين صرفا ولا دفعا حين تخرج مطالبة بحقها في الحياة ونصيبها من الحرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق